منذ عهد الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك، مرورًا بنيكولا ساركوزي، وفرانسوا هولاند ثم إيمانويل ماكرون، واجهت فرنسا إشكالية تراكم وتفاقم الدين العام وفوائده.
في هذا السياق، قال البروفيسور جان-مارك دانيال، أستاذ الاقتصاد في ESCP باريس، والمتخصص في المالية العامة الفرنسية لـ”العين الإخبارية”: “الدين العام الفرنسي ليس مجرد مسألة حسابية، بل مرآة للقرارات السياسية والظروف الدولية. ففي عهد جاك شيراك ونيكولا ساركوزي، كانت الفوائد المرتفعة والأزمات الخارجية كالأزمة المالية العالمية عوامل ضغط هائلة زادت من عبء الدين. أما فرانسوا هولاند وإيمانويل ماكرون فقد استفادا من فترة تاريخية استثنائية اتسمت بانخفاض غير مسبوق في معدلات الفائدة، وهو ما سمح بتمويل الدين بتكلفة أقل رغم ارتفاع العجز.”
وأضاف: “لكن مع عودة معدلات الفائدة إلى الارتفاع بعد عام 2025، لم يعد بإمكان فرنسا الاعتماد على هذه الظروف المواتية. لذلك، فإن ضبط العجز وإعادة ترتيب الأولويات باتا أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى”.
وأشار إلى أن رحلة الدين الفرنسي من شيراك إلى ماكرون تكشف أن الاقتصاد والسياسة وجهان لعملة واحدة. قرارات الرؤساء، الأزمات العالمية، والفوائد المنخفضة أو المرتفعة هي التي حددت مسار الدين، موضحًا أنه مع تراجع الظروف المواتية، تبدو فرنسا أمام لحظة حقيقة: إمّا إعادة ضبط الإنفاق بصرامة، أو مواجهة جبل من الديون يزداد ارتفاعًا ويهدد أجيال المستقبل.
بينما تساءلت مجلة «ذا كونفيرزيشن» الاقتصادية الفرنسية، في تقرير لها: “كيف تؤثر الظروف الاقتصادية (التضخم والنمو) على هذا الدين؟ ومن استفاد من وضع اقتصادي ملائم أو سيئ؟”.
وأشارت المجلة إلى أن الدين لم يتوقف عن النمو خلال الثلاثين سنة الماضية، موضحةً أنه “حصيلة جميع العجوزات العامة المتراكمة منذ منتصف السبعينيات. ولمقارنة حجم هذا الدين بقدرة التمويل، يتم التعبير عنه كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي (الناتج الداخلي الخام) – أي نسبة الدين إلى الناتج (dette/PIB) – والتي تشير إلى عدد السنوات اللازمة من إنتاج الثروات لسداده”.
وتحت رئاسة جاك شيراك، ارتفع الدين من 663.5 مليار يورو إلى 1.211 تريليون يورو، أي من 55.5% إلى 64.1% من الناتج المحلي. وفي عهد نيكولا ساركوزي وصل إلى 1.834 تريليون يورو (90.2% من الناتج). أما في عهد هولاند فبلغ 2.259 تريليون يورو، أي 98.4% من الناتج.
وبحلول نهاية الربع الأول من 2025، بلغ الدين الفرنسي 3.345 تريليون يورو، أي ما يعادل 113.9% من الناتج المحلي. هذا المستوى من المديونية هو بالطبع نتيجة خيارات سياسية تحدد الإيرادات والنفقات، لكنه أيضًا مرتبط بالظرفية الاقتصادية… التي قد تسهّل أو تعقّد إدارة هذا الدينكما أن الأزمات التي عرفتها فرنسا -أزمة الرهن العقاري عام 2008، جائحة كوفيد-19، ركود منطقة اليورو، فقاعة الإنترنت، وانتعاش أوائل الألفية- واجهت الحكومات المتعاقبة بظروف اقتصادية تارة قاتمة وتارة واعدة. فما كانت خياراتهم؟
تأثير الظرفية الاقتصادية على الدين
ووفقًا للمجلة الفرنسية، فإنه يمكن تحليل الظرفية الاقتصادية من خلال عاملين، كلاهما عبارة عن معدلات: معدل الفائدة (r): الذي تحدده السياسة النقدية للبنك المركزي الأوروبي ويحدد كلفة الفوائد على الدين، ومعدل النمو (g): الذي يقيس الزيادة السنوية للثروة المنتجة (الناتج المحلي).
ووفقًا للمجلة الفرنسية، فإنه هناك أثران رئيسيان: أثر سلبي على المالية العامة: يحدث حين يكون معدل الفائدة أكبر من معدل النمو (r – g > 0). في هذه الحالة، تكون الثروة الجديدة الناتجة عن النمو أقل من الفوائد الواجب دفعها، فتزداد المديونية حتى لو كان العجز الأولي (العجز قبل احتساب الفوائد) معدومًا. وهذا ما حدث في عهد شيراك، حيث كانت العجوزات الأولية مستقرة تقريبًا، لكن الدين ارتفع بفعل معدلات فائدة عالية (2.5% إلى 5%) ونمو معتدل (≈4%).
أثر إيجابي على المالية العامة: يحدث حين يكون معدل الفائدة أقل من معدل النمو (r – g
مساهمة الظرفية في الدين
ويصنف التاريخ الحديث العهود الرئاسية في مجموعتين: الأولى: حيث تفسر الظرفية الاقتصادية السيئة القسم الأكبر من زيادة الدين (شيراك وساركوزي)، والثانية: حيث تفسر العجوزات الأولية معظم هذه الزيادة (هولاند وماكرون).
كما أن الأرقام تظهر أنه، في عهد شيراك (1995–2007)، ارتفعت نسبة الدين/الناتج بـ 8.99 نقاط (0.75 نقطة سنويًا). السبب كان أساسًا الظرفية السلبية (r – g > 0) التي أضافت 10.07 نقاط، بينما ساهمت العجوزات الأولية بتقليصه بـ 1.08 نقطة.
وفي عهد ساركوزي (2007–2012)، ارتفعت النسبة بـ 22.76 نقطة (4.55 نقاط سنويًا). نصفها تقريبًا (11.01 نقطة) جاء من العجوزات الأولية المرتبطة بسياسات مواجهة الأزمة المالية، والنصف الآخر (11.75 نقطة) من الظرفية السلبية.
وفي عهد هولاند، كان السبب الرئيسي هو العجز الأولي (71.5% من الزيادة)، رغم انخفاض معدلات الفائدة.
وفي عهد ماكرون، ارتفعت النسبة بـ 10.8 نقاط فقط، لأن الفوائد المنخفضة خففت العبء. لكن العجز الأولي المرتفع جدًا، بسبب الجائحة وأزمة الطاقة، أضاف 26.11 نقطة.
المستقبل (2025–2029)
وتشير التقديرات إلى أن الظرفية الاقتصادية ستصبح أقل دعمًا، مع عودة معدلات الفائدة إلى الارتفاع. هذا يعني أن تقليص العجز الأولي سيكون حتميًا إذا أرادت فرنسا التحكم في الدين، كما أن مشروع الميزانية الذي قدمه فرانسوا بايرو في يوليو/ تموز 2025، مثلًا، سيؤدي إلى زيادة الدين/الناتج بـ 4.6 نقاط، رغم أن الظرفية ستساهم في تقليصه بـ 1.7 نقطة. أي أن العجز الأولي سيرفعه بـ 6.3 نقاط.
التوازن بين النفقات والإيرادات
وخلال 29 عامًا مضت، شهدت فرنسا عشر سنوات ارتفع فيها العجز الأولي، أبرزها: (أزمة البورصة 2002): +1.82 نقطة. و(الأزمة المالية 2009): +4.2 نقاط، و2020 (الجائحة): +6.1 نقاط، وهذه الزيادات كانت مرتبطة أساسًا بارتفاع الإنفاق (95% عام 2009، و97% عام 2020).
ورغم أن الإيرادات زادت بعد الأزمات (2004–2006، 2011–2013، 2021–2022)، فإن الإنفاق لم ينخفض أبدًا، بل استمر على مستوى مرتفع، مما يفسر تضخم الدين.
ضبط الإنفاق العام
وخطة حكومة رئيس الوزراء الفرنسي بايرو الجديدة تركز على تقليص ثلاثة أرباع العجز عبر خفض الإنفاق، لتستقر عند 54.4% من الناتج عام 2029 – أي المستوى الذي كان قبل أزمة 2007.
لكن السؤال الحساس يبقى: أي بنود ستُخفض؟
ارتفعت نفقات الصحة (+3.2 نقاط)، البيئة (+0.8)، الحماية الاجتماعية (+1.3)، الثقافة والترفيه (+0.6)، بينما تراجعت نفقات الإدارة العامة (-4.1)، الدفاع (-1.1) والتعليم (-1.5).
وبالتالي، سيعني أي “إعادة توازن” مستقبلية تحويل الموارد نحو الدفاع والتعليم على حساب الصحة والحماية الاجتماعية.
إلى أين تتجه فرنسا بعد 2025؟
وتشير التوقعات إلى أن الفترة بين 2025 و2029 ستكون أصعب، إذ لن تساعد الظروف الاقتصادية كثيرًا في تخفيف العبء. ميزانية حكومة بايرو الأخيرة مثلًا تتوقع زيادة الدين بـ4.6 نقاط نسبة إلى الناتج، رغم تقليص بعض الإنفاق. لكن حتى مع هذه الجهود، سيظل الدين مستقرًا عند حوالي 117% من الناتج، بعيدًا جدًا عن مستوى 60% الذي كان مطمحًا أوروبيًا.
aXA6IDUxLjkxLjIyNC4xNDQg
جزيرة ام اند امز