محمد سعد عبد اللطيف كاتب وباحث في الجيوسياسية
في التاريخ لحظات فارقة لا تُقاس بنتائجها المباشرة بقدر ما تُقرأ في رموزها وإشاراتها.. قمة ألاسكا بين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب لم تكن مجرد لقاء بروتوكولي بين رئيسين، بل مشهدًا مسرحيًّا مكتمل الأركان على خشبة النظام الدولي، حيث تصطف القوى العظمى لتعيد ترتيب أوراقها وسط صراع دموي في أوكرانيا، وحصار غربي على موسكو، واضطراب أمريكي في إدارة التحولات الكبرى.
منذ اللحظة الأولى بدا وكأن الزمن يعيد إنتاج مفارقات الحرب الباردة، لكن بوجوه جديدة. بوتين، القادم من عزلة مفروضة، يدخل أرض الخصم في ألاسكا، والجيش الأمريكي نفسه يفرش السجاد الأحمر لاستقباله، كأن الجغرافيا والتاريخ قررا أن يكتبا سطرًا جديدًا في ملحمة «توازن القوى».
هذا المشهد لم يكن بروتوكولًا عاديًا، بل إعلانًا غير مباشر أن القيصر ما زال يجلس على الطاولة الدولية، مهما ارتفعت أصوات الغرب بأن روسيا محاصرة أو منبوذة.
الأكثر رمزية أن بوتين قلب قواعد المسرح السياسي الأمريكي حين افتتح هو المؤتمر الصحفي أولًا، في عقر دار ترامب، كاسرًا التقاليد التي تحرص واشنطن على تكريسها منذ عقود، كان ذلك بمثابة إشارة إلى أن روسيا لا تأتي متوسلة، بل محمّلة برؤية وإصرار على أن تكون لاعبًا أوليًا لا تابعًا.
السيارة الأمريكية المصفحة «الوحش»، التي اصطحب ترامب بوتين فيها، بدت صورة مكثفة لعلاقة معقدة: الرئيس الأمريكي يفتح أبواب رموز قوته، بينما يجلس بجواره خصم يعرف جيدًا كيف يوظف كل لحظة ليترك بصمة في الذاكرة الجمعية، حتى تحليق الطائرات الأمريكية – بين من رأى فيه تحية ومن اعتبره تهديدًا – لم يُلغ حقيقة أن روسيا خرجت من القمة وقد كسرت جدار العزلة، وأثبتت أن لغة الاستقبال والاحترام ما زالت مفروضة حتى على الخصم الأكبر.
لكن على رقعة الشطرنج الكبرى، لم يحقق ترامب مبتغاه، لا وقف لإطلاق النار في أوكرانيا، ولا ضمانات بأن موسكو ستتراجع عن استراتيجيتها الطويلة النفس. اكتفى الرئيس الأمريكي بالابتسامات والتصفيق وإعطاء تقييم «ممتاز» للقاء، كمن يبرر لجمهوره أن مجرد انعقاد القمة بحد ذاته إنجاز، غير أن التاريخ يُعلّمنا أن مثل هذه اللحظات لا تُقاس بالتصفيق، بل بمدى قدرة كل طرف على تثبيت موقعه في معادلة القوة.
هكذا، خرج بوتين من ألاسكا وهو يحمل ما يكفي من رموز الانتصار: سجادة حمراء أمريكية، خطاب بدأه بنفسه، ركوب «الوحش» الأمريكي، وإمكانية دعوة ترامب لاحقًا إلى موسكو. كلها أوراق معنوية لا تقل أهمية عن أي اتفاق مكتوب. وفي فلسفة التاريخ، فإن الرمزية أحيانًا تمهّد للتحولات الواقعية أكثر من أي وثائق دبلوماسية.
القمة لم تكن نهاية لصراع أوكرانيا ولا بداية سلام، لكنها كانت علامة على أن رقعة الشطرنج لم تُحسم بعد، أمريكا وروسيا ما زالتا تتنازعان على المركز، وبينهما عالم مترقب يدرك أن كل حركة بيادق أو فرسان على اللوح قد تغيّر ملامح القرن.
إنها ألاسكا، بوابة الجليد، حيث يتقاطع الجغرافيا مع التاريخ، ويعود السؤال الفلسفي الأبدي: من يقود النظام الدولي، ومن يكتفي بالتصفيق خلف الستار؟ ولعل ما جرى يؤكد أن العالم ما زال أسير لعنة الجغرافيا السياسية، حيث تُفرض الخرائط على مصائر الأمم أكثر مما تصنعه إرادتها.
اقرأ أيضاً«الرئيس الروسي» يطلع نظيره الطاجيكي ورئيس وزراء الهند على نتائج قمة ألاسكا
عندما التقى الكبار بقمة ألاسكا