بعد عقود من التوترات الحدودية والتنافس الجيوسياسي، تلوح في الأفق بوادر تقارب حذر بين الهند والصين، أكبر قوتين آسيويتين نوويتين تمثلان أكثر من ثلث سكان العالم.
هذا التحول لا يقتصر على كونه شأناً ثنائياً، بل يُنظر إليه على أنه تحول استراتيجي محوري قد يعيد رسم التوازنات في آسيا والعالم، مع انعكاسات مباشرة على ساحات حساسة مثل أفغانستان.
ولا ينفصل هذا المشهد عن السياق الأوسع للتنافس الدولي: من الولايات المتحدة المتوجسة، إلى روسيا الساعية لتكريس حضورها، مروراً بتركيا وباكستان كلاعبين إقليميين مؤثرين، وصولاً إلى منطقة الشرق الأوسط التي قد تصبح ساحة جديدة للتأثير المتبادل بين بكين ونيودلهي. وفي ضوء هذه التفاعلات، تبدو المنطقة مقبلة على إعادة تموضع شاملة، قد تفتح المجال لتعاون محدود أو لتجدد أنماط الصراع.
1. الجيوسياسية: التنافس والتعاون البراغماتي
ارتكزت العلاقة بين نيودلهي وبكين تاريخياً على 3محددات رئيسية: النزاعات الحدودية في الهيمالايا، التنافس على النفوذ في جنوب آسيا والمحيط الهندي، والسباق نحو القيادة الاقتصادية والتكنولوجية.
غير أن التطورات الأخيرة، بما فيها اللقاءات رفيعة المستوى، تشير إلى ميل متزايد لإدارة الخلافات بمنطق براغماتي.
ويعكس هذا التحول اعتبارات مشتركة: سعي الصين لتأمين جبهتها الغربية في ظل الضغوط الأمريكية، ورغبة الهند في تفادي الاستنزاف الحدودي لتعزيز تنافسها الاقتصادي، إضافة إلى إدراك الطرفين أن استقرار آسيا الوسطى ضروري لإنجاح مشاريع كبرى مثل “الحزام والطريق” والممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني.
2. أثر التقارب على المعادلة الإقليمية والدولية
التهدئة بين الصين والهند تقلل من احتمالات الصدام المباشر وتفتح المجال لإعادة تفعيل أطر إقليمية مثل منظمة شنغهاي للتعاون و”بريكس”.
هذا المناخ الجديد يمنح الدول الصغيرة في جنوب آسيا (نيبال، سريلانكا، المالديف) مساحة مناورة أكبر.
أما باكستان، الحليف التقليدي للصين والخصم التاريخي للهند، فستجد نفسها أمام معادلة أكثر تعقيدًا؛ إذ أن أي تقارب بين نيودلهي وبكين قد يُترجم إلى ضغط غير مباشر على إسلام آباد لخفض التوترات الحدودية مع الهند وأفغانستان.
الولايات المتحدة: يرى خبراء أن واشنطن تتابع هذا التقارب بقلق، خاصة أن استراتيجيتها في منطقة المحيطين الهندي والهادئ تقوم على تعزيز تحالفاتها مع دول الاقليمية لمواجهة النفوذ الصيني.
المحلل السياسي “مايكل كوغل” يقول: “واشنطن قد تجد نفسها أمام معضلة حقيقية: هل سوف تراهن على الشراكة مع الهند أم على إثارة الانقسام بينها وبين الصين؟”.
روسيا: موسكو قد ترى في هذا التقارب فرصة لتعزيز دورها في آسيا الوسطى من خلال منظمة شنغهاي للتعاون، لكنها قد تجد نفسها في موقف صعب بين حليفيها الاستراتيجيين.
3. أفغانستان: جسر النفوذ وفرص التنمية
تُمثل أفغانستان نقطة تماس حساسة في حسابات الهند والصين؛ فهي بالنسبة لبكين ركيزة لأمن شينغيانغ وضمان ممر آمن لمشاريع “الحزام والطريق”، بينما تراها نيودلهي عمقاً استراتيجياً لموازنة النفوذ الباكستاني وتعزيز حضورها في آسيا الوسطى.
وقد يفتح أي تفاهم صيني–هندي الباب لتعاون غير مباشر أو لتخفيف حدة التنافس التقليدي بينهما.
وعلى الصعيد الداخلي، قد يدفع هذا التقارب الأطراف الإقليمية لحث حركة طالبان على الانخراط أكثر مع المجتمع الدولي، كما يهيئ كابول لاستثمارات مزدوجة أو سباق اقتصادي أقل حدة بين الهند والصين.
وفي هذا السياق، يرى الدبلوماسي السابق عمر صمد أن: “هذا التقارب قد يكون فرصة ذهبية لأفغانستان، فبدلاً من أن تبقى ساحة صراع نفوذ، يمكن أن تتحول إلى نقطة التقاء للمصالح الاقتصادية المشتركة.”
4. الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC) ودور دول الخليج
يُمثّل هذا الممر (IMEC) تحولاً محورياً في الجغرافيا السياسية والاقتصادية العالمية، مُقدِّماً نموذجاً جديداً للترابط التجاري يتجاوز الأنماط التقليدية.
لا تُعد هذه المبادرة مجرد مسار بديل عن طريق قناة السويس، بل هي استراتيجية متكاملة تهدف إلى تعزيز سلاسل التوريد عبر ربط السكك الحديدية والموانئ البحرية بين القارات.
وفي هذا السياق، تبرز دول الخليج العربي كلاعب أساسي، حيث تتحول من مجرد مصدر للطاقة إلى مراكز لوجستية عالمية محورية.
هذا الدور المتنامي لا يقتصر على جذب الاستثمارات الضخمة فحسب، بل يمنح هذه الدول قدرة أكبر على المناورة في ظل التنافس المتصاعد بين القوى الكبرى.
فمع تزايد التقارب بين الهند والصين، يتقلص الضغط على دول الخليج لاتخاذ موقف أحادي، مما يعزز استقلاليتها في اتخاذ القرار ويُكسبها نفوذاً أكبر في المحافل الدولية، ويجعل منها جسراً حيوياً لتوازن المصالح العالمية.
5. السيناريوهات المحتملة للمستقبل
في ظل التحولات المتسارعة التي تشهدها المنطقة، يظل مستقبل العلاقة بين الطرفين مفتوحاً على أكثر من مسار محتمل، يمكن قراءته من خلال ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
أولاً: سيناريو المنافسة التعاونية: قد تستقر العلاقة في إطار يجمع بين التعاون المحدود والتنافس المستمر، بحيث تُفتح قنوات للتنسيق في بعض الملفات ذات الاهتمام المشترك مثل مكافحة الإرهاب وضمان الاستقرار الإقليمي، فيما تبقى مجالات أخرى، خاصة الاقتصادية والاستراتيجية، ساحةً للتنافس ومحاولة توسيع دوائر النفوذ.
ثانياً: سيناريو “الفخ” الاستراتيجي: وفقاً لرأي بعض المراقبين، قد يكون هذا التقارب ذا طابع مؤقت، يندرج في سياق مناورة تكتيكية تستهدف كسب الوقت وتأمين الجبهة الغربية للصين، قبل استئناف مسار المنافسة بأشكال أكثر حدة، ولا سيما في حال تصاعد الضغوط القادمة من الولايات المتحدة وحلفائها.
ثالثاً: سيناريو الشراكة الاستراتيجية المتدرجة: على الجانب الآخر، ثمة من يرى إمكانية أن يشكّل التقارب الحالي مدخلاً لتأسيس شراكة استراتيجية أكثر رسوخاً، تقوم على توسيع التعاون الاقتصادي والتنموي، وتعزيز التنسيق في القضايا الإقليمية والدولية. مثل هذا المسار قد يسهم في ترسيخ الثقة المتبادلة، ويؤسس لمعادلة أكثر استقراراً تستند إلى مصالح مشتركة طويلة الأمد.
خاتمة
إن التحولات التي تشهدها العلاقة بين الهند والصين ليست مجرد تعديل في السياسات، بل هي انعكاس لتغير عميق في ديناميكيات القوة العالمية.
فهل ستنجح نيودلهي وبكين في تجاوز إرث الخلافات التاريخية، أم أن تقاربهما الحذر سيكون مجرد استراحة محارب قبل جولة جديدة من التنافس؟ أياً كان المسار، فإن الدرس المستفاد هو أن القوى الكبرى لم تعد تعمل في فراغ، بل إن مصائرها تتشابك بشكل متزايد، وأن مستقبل آسيا، وربما العالم، سيتحدد إلى حد كبير بمدى قدرة هاتين القوتين على إدارة تعقيدات علاقتهما.
إن هذا التقارب يضع المنطقة أمام مفترق طرق حقيقي: إما أن يُعزز الاستقرار ويُفتح آفاقاً جديدة للتعاون الاقتصادي، أو أن يُصبح مجرد مقدمة لصراع نفوذ متعدد الأوجه
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة