البحث عن قلب العالم..

شارك هذه المقالة مع أصدقائك!



أيوجد للعالم موقع جغرافي، أو عقيدة، أو أيديولوجية، أو إطار، أو تصنيف، يمثل المحرك والقلب لهذا العالم، ويشكّل مركزًا أساسيًا للتفاعلات السياسية والاقتصادية والتجارية والمعرفية والأمنية؟ فمن يتحكم بالقلب يتحكم بمفاصل العالم بأسره.

فالعالم بقاراتهِ ودولهِ وشعوبهِ وشركاتهِ وصناعاتهِ ومواردهِ وعلومهِ أصبح متداخلاً ومتشابكاً متصلاً، رغم ذلك، مازالت قوى عالمية تبحث عن التحكم فيه مقابل أطراف تحاول الحيلولة دون السيطرة عليه، وهذه السيطرة على قلب العالم بدأت بسلسلة من الأطروحات أهمها مع عالم الجغرافيا والسياسة البريطاني هيلفورد ماكيندر، الذي وجد بأن قلب العالم ” Heartland” في المنطقة الأوراسية الشاسعة الرابطة آسيا بأوروبا، فمنطقة قلب العالم هذه تندرج داخل جزيرة العالم “World Island” التي تحتوي على آسيا وأفريقيا وأوروبا.

وقد تطورت الأطروحات الجيوسياسية فيما بعد، وهنا لنا نصيب من البحث والجدل حول رؤى مختلفة ومتضاربة حول أين يقع قلب العالم؟.

إذا بحثنا عن الصناعة والاقتصاد كمسار لكي يدلنا على قلب العالم، فسنجد بأن منطقة آسيا/المحيط الهادئ تتهيأ على أن تكون هي قلب السياسة الدولية، وهذا التحول عظيم من منظور تاريخ العالم، لأنه لأول مرة منذ بداية العصر الحديث (حوالي عام 1500) لن يكون التمركز الوحيد الأكبر للقوة الاقتصادية العالمية في أوروبا والأمريكيتين، بل في آسيا، فالصناعة الآسيوية أصبحت منتشرة في العالم ومنها القارة الأوروبية والأمريكيتين.

فهناك عوامل جعلت مركز العالم الاقتصادي ينتقل إلى منطقة آسيا/المحيط الهادئ، فبعد زوال النظام الاستعماري وميلاد عشرات الدول الجديدة، أتت نخب وطنية مستنيرة في عدة بلدان آسيوية باشرت استراتيجيات اقتصادية قومية مع انتشار التعليم والبعثات الدراسية المتعددة إلى الغرب، مع توفر القوى البشرية العاملة والمنتجة بأعداد ضخمة، ومن العوامل المهمة النظام الدولي في فترة الحرب الباردة، حيث فتحت واشنطن أسواقها للمنتجات الآسيوية دون أن تحث المصدِّرين الآسيويين على القيام بنفس الشيء وفتح أسواقهم، وهي استراتيجية قامت على اعتبارات سياسية مرتبطة بالحرب الباردة لمقاومة الاتحاد السوفياتي، وكان هناك دعماً مالياً وتنموياً للدول المحايدة في الحرب الباردة بتقوية نفسها بما يكفي لمقاومة كل من الإغراءات الشيوعية وجهود التغلغل المحتملة.

وتبعاً لذلك، فإن الدول الآسيوية كانت حرة في استغلال أسواق أمريكا المفتوحة وامتصاص رأسمالها الكبير وتكنولوجيتها المتفوقة، علاوة على أنها احتفظت بإجراءات اقتصادية مغلقة نسبياً في الداخل.

مع هذا، يتبين لنا بأن العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة وفي إطار الحرب الباردة، والتي كانت تبحث عن السيطرة على قلب العالم في منطقة جغرافية معينة، قد أوجدت مركزاً دولياً للتفاعلات الاقتصادية والتجارية والصناعية والمعرفية بعيداً عنها، وهي منطقة آسيا/المحيط الهادئ.

وإذا بحثنا عن قلب العالم كمنظومة سياسية أيدولوجية سنجد لماذا اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية، فاستمرار المنظومة الليبرالية الغربية في الانتشار والتوسع كنتيجة حتمية كما وضعها “فرانسيس فوكوياما- Francis Fukuyama” في فكرة “نهاية التاريخ”، والتي تعني انتصار الليبرالية الغربية على منافسيها الإيديولوجيين باعتبارها وسيلة لتنظيم المجتمع والنظام الدولي، قاد أولاً، لتطرف بعض الأفكار الليبرالية في المجتمع والأسرة، حيث هناك محاربة طبيعة العالم المختلفة في الثقافة والخصائص الحضارية، ثانياً، تبدو الليبرالية الغربية تهرب عن تقويم أفكارها نحو تشتيت رؤى العالم عبر الاقتصاد الأخضر والطاقة المستدامة.

فرغم مآسي الحرب الروسية الأوكرانية وآثار العقوبات وارتفاع أسعار الطاقة والسلع الرئيسية، إلا إننا نجد حقيقة هذه الحرب يختزلها وصف توماس فريدمان بقولهِ “روسيا ترفع غصن الزيتون أمام العولمة الغربية”، أي أن روسيا الاتحادية ترفع من شأن الدولة القومية ذات السيادة والخصائص الثقافية ضد تمدد المنظومة الليبرالية الرأسمالية والاجتماعية.

وتتضح الأمور أكثر هنا مع المفكر الروسي ألكسندر دوغين، الذي يقدم لنا واقع اليوم، بأن هناك 3 نظريات أثرت وسادت في العالم، فقد انتصرت الليبرالية على الفاشية وعلى الشيوعية.

وفي حقيقة الصراع مع الليبرالية الغربية بقيمها المادية الرأسمالية والحرية الفردية يبدأ الصراع من روسيا أولاً عند دوغين، فقد تغيرت الهوية الروسية خلال 100 عام من روسيا القيصرية والكنيسة الأرثوذكسية إلى روسيا البلشفية الشيوعية، ثم مرحلة الهوية الليبرالية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والآن تأتي روسيا الوطنية ذات الطابع الروسي الحضاري والاجتماعي والثقافي والديني.

فالجغرافيا مرتبطة بالمكان والإنسان مؤثرةً على السياسة، فالدول من هويتها الرئيسية في وجود شعب وسيادة على إقليم وموقع جغرافي ونظام سياسي، إلى الهوية الاجتماعية للدول بكل ما تحتوي من اللغة والدين والأعراق والقيم والمعتقدات والأيدولوجيات السائدة والمتصارعة والقدرات البشرية المادية والمعنوية، تعكس أدواراً مشتركة ومتعاونة وأخرى متصارعة مع دول أخرى، على سبيل المثال، الهوية الليبرالية بين أوروبا الغربية والولايات المتحدة كونت أدواراً في السياسة الخارجية والأمنية مثل حلف الناتو.

فحسب رؤية دوغين “الذي يصف نفسه بأنه بعيد عن بوتين ولكن أفكارهُ قريبة من بوتين” يجب على روسيا خلق فضاء أوراسي لها حيث تكون هناك مصالح وقواسم مشتركة مع تأييد روسي لحضارات مناهضة للهيمنة الغربية الليبرالية في دول آسيا بما في ذلك الشرق الأوسط ودول الاتحاد السوفياتي السابق إلى جانب أفريقيا وأوروبا، ففي أوروبا ليس من أهداف موسكو منع تمدد حلف الناتو وحسب بل تشجيع بروز القومية الأوروبية المحافظة التي أصبح لها حضوراً كبيراً.

وإلى الأراضي التي عليها بصمة يد الله، فالبروفسور ديفيد نيومان يعتقد ويقدم بأن فلسطين/إسرائيل هي قلب العالم رغم صغر حجمها الجغرافي، فهي مركز لشتات اليهود، وتقع في منطقة الشرق الأوسط وعلى البحر الأبيض المتوسط بينما موقعها الثقافي مرتبط بأوروبا من خلال النخبة السياسية اليهودية القوية، فاليهود الأشكيناز “الأوروبيون” حضورهم يغلب على الأغلبية من اليهود المزراح “الشرق الأوسط والآسيويين والأفارقة”، إلى جانب المشاركة في الأنشطة الرياضية والثقافية الأوروبية وأيضاً حضور اللغة الإنكليزية في المرتبة الثانية بعد العبرية، وهناك التجارة والاستثمار والشركات العالمية، مع أهمية المكانة الروحية الدينية الدولية “الأديان الإبراهيمية الثلاثة”، ويطلق نيومان” على إسرائيل الولاية الحادية والخمسون في الولايات المتحدة بسبب نفوذ جماعات الضغط اليهودية والنظرة إليها كدولة ديمقراطية في الشرق الأوسط، وتعتبر من منظورهِ الخاص أيضاً مركزاً لاستقرار منطقة الشرق الأوسط الغنية بالموارد الطبيعية.

وعلى سياق ديفيد نيومان، نجد السعودية مركزاً مهماً للعالم، فالقدرات السعودية الجيوبوليتكية تمتلك بعداً دينياً عالمياً عبر مكة المكرمة والمدنية المنورة ومناطق أخرى كجبل اللوز في تبوك، وتعكس مركزاً لتاريخ العرب وبداية الإسلام، وتمتلك أرضا واسعة ومتنوعة، ولديها آثار حضارية عديدة، وقوة نفطية هائلة على المستوى الدولي، وتقع على الخليج والبحر الأحمر، وتجاور جميع دول الخليج التي من ضمنها إيران والعراق مع اليمن كدولة من الجزيرة العربية، كما تجاور الأردن ومصر عبر البحر الأحمر وحتى إسرائيل بحرياً، ولها قدرات بشرية متزايد في العدد والنوعية مع قوة صناعية وتجارية ومعرفية صاعدة، وترسل باستمرار وبأعداد كبيرة بعثات خارجية للدراسة، وللسعودية وزناً مؤثراً في النظام الإقليمي العربي والذي يعتبر جزءاً من النظام الدولي.

يبدو الطريق إلى قلب العالم محيراً فالطرق تتفرع بعيداً فلا وجود لمكان تتقاطع وتلتقي فيه الطرق، مثلاً أهمية الموارد الطبيعية الغير متجددة من النفط والغاز والليثيوم والمعادن النادرة وغيرها من الموارد الطبيعية المتجددة، وأيضاً طرق التجارة والممرات البحرية والمسارات الجوية ومراكز عمليات التنمية الكبيرة في أفريقيا وآسيا، وهنا لابد من توضيح إطار الجيوبوليتيكا الخضراء الدولية التي يرعاها الغرب والولايات المتحدة الأمريكية بأنها ستجعل جغرافية الصراع والتنافس على الموارد الطبيعية يزداد تعقيداً عبر أهمية معدن الليثيوم في صناعات البطاريات لتخزين الطاقة المتولدة من الشمس أو الرياح، حيث نكتشف بأنه النفط الأبيض “الليثيوم” الغير متجددة يكثر في رقعة جغرافية دولية معينة ومحدودة، إلى جانب أهمية المعادن النادرة في الصناعات الثقيلة والتي سينتقل إليها جزءاً من التنافس والصراع الدولي، وهذه المعادن النادرة تبدو حاضرة في الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا.

ومن منطلقات كون القلب مصدر الحياة، فإننا في إطار العولمة بكل ما تحملهُ من سلسلة الاعتماد المتبادل بين الدول والحكومات والشعوب والشركات والصناعات وحركة التواصل والاتصال والتجارة والمعرفة والعلوم، نجد بأن الدول الصغيرة والصغرى تقوم بأدوار القلب في تحقيق المستوى المقبول من الأمن والاستقرار حول العالم، قطعاً، إن حالة المقبولة من الأمن والاستقرار والتعاون والتطور في العالم ترجع إلى قيام الأمم المتحدة، وأيضاً، إلى وجود الدول الصغيرة والصغرى وتزايد تطورها وفعاليتها وعددها، والتي جعلت العالم أكثر اختلافاً وتنوعاً وتواصلاً وتطوراً وتعاوناً، وأقل قابلية لسيطرة وهيمنة قوى سياسية محدودة على العالم والأمم، وما زالت الدول الصغيرة المتطورة تحفز الدول الكبيرة على تبني أنظمة لا مركزية وفيدرالية وكونفدرالية جراء فشل بعض الدول في أنظمتها السياسية والاقتصادية وفي تحقيق التنمية وجودة الحياة.

الخاتمة: بعد هذا العرض حول أين هندسة أو نظرية قلب العالم، المحرك للتفاعلات السياسية والاقتصادية والصناعية والمعرفية والأمنية، فهل هو في تلك البقعة من العالم حيث الكتلة الصناعة والاقتصادية في منطقة آسيا/المحيط الهادئ؟، أو ربما قلب العالم يكمن وراء الأفكار والحضارات والأيدولوجيات في الصراع بين الأيدولوجية الليبرالية الغربية مقابل خصائص العالم الثقافية والحضارية المتعددة المناهضة لها؟، أم أن فؤاد العالم مازال مُعَلقاً على الموارد الطبيعية المتجددة والغير متجددة في أماكن جغرافية متعددة؟.

أليس من الاحتمال أن يكون قلب العالم يقع فقط في دول بعينها من العالم في جغرافية فلسطين/إسرائيل وإقليم المملكة العربية السعودية؟، ألا يصح القول بأن استمرار العالم في مستويات مقبولة من الاستقرار يرجع إلى دور وتزايد فعالية وعدد الدول الصغيرة حول العالم، فهي القلب الذي جعل العالم أكثر تنوعاً وتعاوناً وأقل قابلية لسيطرة وهيمنة قوى سياسية محدودة على العالم والأمم.

الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة



‫0 تعليق

اترك تعليقاً