فتح الإعلان الأممي الرسمي عن المجاعة في قطاع غزة الباب أمام تداعيات قانونية وسياسية تتكبدها الحكومة الإسرائيلية، بحسب خبراء في القانون الدولي.
ورأى خبراء القانون الدولي في تصريحات لـ”العين الإخبارية” أن هذا الإعلان لا يقتصر على توصيف كارثة إنسانية فحسب، بل يحوّلها إلى جريمة حرب مكتملة الأركان تُلزم المجتمع الدولي بالتدخل العاجل، وتضع قادة إسرائيل تحت طائلة الملاحقة أمام المحكمة الجنائية الدولية.
وأشار الخبراء إلى أن الإعلان يحوّل مسؤولية العالم من مجرد التنديد الأخلاقي إلى التزام قانوني صريح بوقف سياسة “التجويع الممنهج”، وفرض دخول المساعدات، وفرض عقوبات وعزلة دولية على الاحتلال في حال استمرار الانتهاكات.
جريمة حرب بموجب نظام روما
وقال أستاذ القانون الدولي في جامعة القدس، الدكتور أمجد شهاب، إن الإعلان عن وقوع مجاعة كاملة في قطاع غزة يحمل تبعات قانونية خطيرة، ويُعد خطوة تاريخية غير مسبوقة صادرة عن منظمة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي بالتعاون مع وكالات الأمم المتحدة.
وأوضح شهاب في حديثه لـ”العين الإخبارية” أن هذا الإعلان يمثل وثيقة رسمية يمكن تقديمها إلى مجلس الأمن الدولي، ويشكل تحولًا قانونيًا في توصيف الكارثة وخطورتها، ما يستوجب موقفًا واضحًا من المجتمع الدولي تجاه مسؤولية الاحتلال الإسرائيلي عن فرض المجاعة على سكان القطاع.
وشدد على أن المجاعة في غزة تُعتبر جريمة حرب بموجب المادة الثامنة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، إذ إن تجويع المدنيين وحرمانهم من المواد الأساسية لبقائهم على قيد الحياة يُعد أحد أساليب الحرب المحظورة التي يعاقب عليها القانون الدولي.
وأضاف أن اتفاقية جنيف الرابعة، في مادتيها 55 و56، تُلزم إسرائيل بصفتها قوة احتلال بضمان الإمدادات الغذائية والطبية للسكان والسماح بدخول المساعدات الإنسانية دون عوائق، بينما تنتهك هذه الالتزامات بفرض العوائق وتعقيد وصول المساعدات، في إطار سياسة “قتل بطيء” لسكان غزة.
وأكد شهاب أن هناك مسؤولية تقع على المجتمع الدولي بموجب مبدأ “مسؤولية الحماية” الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2005، والذي ينص على أنه في حال فشل أي دولة أو سلطة مسيطرة على الأرض في حماية السكان من الجرائم الفظيعة، فإن المجتمع الدولي يتحمل مسؤولية التدخل. وشدد على أن المطلوب اليوم هو اتخاذ خطوات قانونية ملزمة لوقف المجاعة، وفرض إدخال المساعدات، والتحقيق مع المسؤولين عنها، وصولًا إلى إحالة هذه الانتهاكات إلى المحكمة الجنائية الدولية.
الإبادة الجماعية والالتزامات الدولية
وقالت الخبيرة القانونية الأمريكية جينجر تي. تشابمان، عضو الحزب الجمهوري، إن التردد في استخدام مصطلح “الإبادة الجماعية” عند توصيف ما يجري في غزة يعود إلى ما يترتب عليه من التزامات قانونية دولية ملزمة.
وأوضحت في حديثها لـ”العين الإخبارية” أن إعلان الإبادة الجماعية لا يكتفي بوصف جريمة، بل يفرض على الدول الأطراف في اتفاقية جنيف لمنع جريمة الإبادة والمعاقبة عليها القيام بإجراءات ملموسة لمنع هذه الجريمة ومعاقبة مرتكبيها، مشيرة إلى أن “الاتفاقية لا تكتفي بمطالبة الدول بعدم التواطؤ، بل تُلزمها باتخاذ خطوات إيجابية لمنع الإبادة ومعاقبة مرتكبيها”.
وأضافت: “الولايات المتحدة، على سبيل المثال، وقّعت على الاتفاقية عام 1949 وصادقت عليها عام 1988، وبالتالي فهي ملزمة قانونًا بالتحرك”.
وأشارت الخبيرة الأمريكية إلى أن مشهد التهرب من الاعتراف بالإبادة ليس جديدًا؛ فقد شهد العالم الأمر ذاته خلال إبادة رواندا عام 1994، حين امتنعت إدارة الرئيس بيل كلينتون عن استخدام المصطلح، قبل أن يعترف لاحقًا بندمه الشديد على ذلك الموقف.
كما أوضحت أن الاتفاقية نفسها تدعو إلى سنّ تشريعات وطنية تتضمن عقوبات فعّالة، ومقاضاة الجناة، وتفعيل إجراءات تسليم بتهم الإبادة الجماعية، والتعاون على نطاق واسع عبر مؤسسات وأجهزة مثل الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وأضافت أن المحاكم الدولية، وتحديدًا محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، يمكنها مقاضاة الأفراد بتهمة الإبادة الجماعية.
وتابعت قائلة: “العائق الأكبر أمام إعلان دولي صريح لمنع الإبادة الجماعية هو الولايات المتحدة نفسها، فالإدارة الأمريكية باتت رهينة لنفوذ إسرائيل، تستخدم المال والقوة لإسكات الدول الأخرى. لكن هذه الاستراتيجية فاشلة، إذ يزداد الرأي العام الأمريكي اقتناعًا بأن ما يحدث في غزة إبادة جماعية يجب وقفها فورًا”.
من أزمة إنسانية إلى كارثة مؤكدة
بدوره، رأى الدكتور محمد محمود مهران، أستاذ القانون الدولي العام وعضو الجمعيتين الأمريكية والأوروبية للقانون الدولي، أن الإعلان الرسمي عن المجاعة في قطاع غزة يُحدث تحولًا جذريًا في الوضع القانوني الدولي، ويفتح ملفات قانونية متعددة ومعقدة تتطلب فهمًا دقيقًا لآلياتها وتداعياتها.
وأوضح مهران في تصريحات خاصة لـ”العين الإخبارية” أن إعلان المجاعة يحوّل الوضع من “أزمة إنسانية” إلى “كارثة إنسانية مؤكدة” وفقًا للتصنيفات القانونية الدولية، مضيفًا أن هذا التحول يفعّل تلقائيًا المادة 23 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تلزم جميع الأطراف بالسماح بالمرور الحر للإمدادات الطبية والدينية والغذائية المخصصة للمدنيين، كما يفعّل المادة 70 من البروتوكول الإضافي الأول التي تنص على حق السكان المدنيين في تلقي المساعدات الإنسانية العاجلة.
وبيّن أن هذا التفعيل يعني أن أي منع أو عرقلة لوصول المساعدات يصبح جريمة حرب مؤكدة وليس مجرد انتهاك للقانون الدولي، مما يضع إسرائيل أمام مساءلة جنائية مباشرة، لافتًا إلى أن إعلان المجاعة يوفر دليلاً موضوعيًا قاطعًا على تحقق أركان جريمة التجويع القسري للمدنيين المنصوص عليها في المادة 8 (2)(ب)(25) من نظام روما الأساسي، والتي تتطلب إثبات أن الفاعل تعمّد حرمان المدنيين من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم.
وأكد مهران أن المجاعة المعلنة رسميًا تشكل قرينة قانونية قاطعة على تحقق الركن المادي للجريمة، بينما الأدلة على النية الإجرامية متوفرة من خلال التصريحات الرسمية الإسرائيلية وسياسات الحصار، مشددًا على أن هذا يضع المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أمام التزام قانوني صريح بإصدار مذكرات توقيف فورية ضد المسؤولين الإسرائيليين، إذ لم يعد هناك مجال للتقدير أو التأخير في ظل وجود هذا الدليل القاطع.
من دعوة أخلاقية إلى التزام قانوني
وفيما يتعلق بالتزامات الدول الأخرى، أكد الخبير الدولي أن إعلان المجاعة يحوّل الموقف من دعوة أخلاقية للمساعدة إلى التزام قانوني صريح بالتدخل الإنساني، مشيرًا إلى أن المادة الأولى المشتركة في اتفاقيات جنيف تلزم جميع الدول الأطراف بضمان احترام هذه الاتفاقيات في جميع الظروف.
وأوضح أن هذا الالتزام يشمل وقف أي شكل من أشكال الدعم العسكري أو اللوجستي للدولة المنتهكة، وتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة للضحايا، وممارسة كافة أشكال الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية لوقف الانتهاكات.
وأشار إلى أن من بين الآثار المترتبة استدعاء تطبيق العديد من الآليات الدولية مثل عقوبات مجلس الأمن، والعقوبات الاقتصادية الأحادية، وتعليق العضويات في المنظمات الدولية، ووقف الاتفاقيات التجارية والثقافية، وصولًا إلى عزلة دولية شاملة.
تحمل جميع الدول المسؤولية عن جرائم الحرب
من جانبه، أكد الدكتور مجيد بودن، أستاذ القانون الدولي، أن من أهم الآثار المترتبة على إعلان الأمم المتحدة هو إلزام جميع الدول بتحمل المسؤولية عن جرائم الحرب والإبادة الجماعية، لافتًا إلى أن أي إهمال في منع هذه الجرائم يُعد مشاركة فيها.
وأضاف بودن في حديثه لـ”العين الإخبارية” أن الإعلان يعتبر دليلاً قانونيًا على الجريمة وفقًا للمعايير الدولية، ما يمكّن فلسطين ودولًا أخرى من اللجوء إلى محكمة العدل الدولية لتقديم قضايا ضد إسرائيل لوقف التجويع وإجبارها على تأمين المعونات.
وكشف بودن أن صدور حكم من محكمة العدل الدولية وتوجيهه إلى مجلس الأمن يأخذ مسارين: الأول إذا كان على شكل لائحة، يمكن لأي دولة من الدول الخمس الدائمة العضوية استخدام حق النقض “الفيتو” ومنع تنفيذه، أما الثاني فيكون عبر طلب تنفيذ قرار المحكمة مباشرة، وهو ما لا يخضع عادة للفيتو.
وشدد على أنه لم يحدث تاريخيًا أن اعترضت أي دولة باستخدام “الفيتو” على قرارات محكمة العدل الدولية، إذ يُعتبر مجلس الأمن سلطة تنفيذية ملزمة بتنفيذ أحكامها.
aXA6IDUxLjkxLjIyNC4xNDQg جزيرة ام اند امز