تحولات جذرية يمر بها المشهد السياسي الأوروبي، مع بروز قوى أقصى اليمين كلاعب أساسي في رسم ملامح المستقبل السياسي داخل القارة، مدعومة بزخم شعبي متصاعد وتنسيق غير مسبوق مع تيار «أمريكا أولاً» بقيادة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
هذا التلاقي العابر للأطلسي لم يعد مجرد خطاب متبادل أو مجاملات سياسية، بل تحول إلى محور استراتيجي يجمع أطرافًا من أوروبا وأمريكا في مواجهة تيارات الوسط واليسار التقليدية، ويضع أسسًا لتحالف يميني عالمي يطمح إلى إعادة تشكيل النظام الدولي، وفق تقرير لموقع أكسيوس الأمريكي.
ففي أوروبا، تمكنت أحزاب أقصى اليمين من تحقيق اختراقات انتخابية لافتة في عدة دول رئيسية، مثل ألمانيا، فرنسا، وإيطاليا.
هذه الأحزاب لم تعد حبيسة الهامش السياسي أو مجرد أصوات احتجاجية، بل أصبحت قوى منظمة قادرة على حصد مقاعد برلمانية مؤثرة وصياغة أجندة سياسية تتحدى الاتحاد الأوروبي ومؤسساته.
ويتجلى ذلك في تنامي نفوذ حزب «البديل من أجل ألمانيا»، وصعود حزب التجمع الوطني في فرنسا، إلى جانب الدور البارز الذي تلعبه رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني التي تقدم نفسها كجسر بين التيارات المحافظة التقليدية وأقصى اليمين الشعبوي.
تقاطع في الخطاب
المفارقة أن هذا الصعود لم يأتِ بمعزل عن المشهد الأمريكي؛ إذ يتبنى أقصى اليمين الأوروبي الكثير من سرديات ترامب وحلفائه، سواء في الخطاب الشعبوي المناهض للهجرة، أو في الدعوات لإعادة الاعتبار لـ«السيادة الوطنية» على حساب الالتزامات الأوروبية المشتركة.
بل إن بعض قيادات هذه الأحزاب باتوا ينظرون إلى التجربة الترامبية كمصدر إلهام، معتبرين أن ترامب بمثابة قوة دفع جديدة لمشروعهم داخل القارة العجوز.
المحور الأبرز في هذه العلاقة يتمثل في تبادل الدعم السياسي والرمزي. فشخصيات يمينية أوروبية كالبريطاني نايجل فاراج أو الفرنسية مارين لوبان تحرص على إظهار تقاربها مع ترامب، فيما يسعى الأخير إلى توظيف هذه العلاقات لإثبات أن رؤيته السياسية ليست محصورة في الداخل الأمريكي، بل لها امتداد عالمي واسع.
وبهذا يترسخ خطاب يربط ما بين «اليمين السيادي» في أوروبا و«أمريكا أولاً»، بما يحوله إلى شبكة سياسية عابرة للحدود.
قلق أوروبي
لكن هذا التمدد يثير في المقابل قلقًا عميقًا لدى التيارات التقليدية داخل أوروبا. فالأحزاب الحاكمة، سواء من الوسط أو اليسار، تواجه صعوبة متزايدة في إقناع قواعدها الشعبية بجدوى الاستمرار في سياسات الاتحاد الأوروبي كما هي.
ومع تصاعد الأزمات الاقتصادية، وملفات مثل الهجرة والهوية الوطنية وأمن الحدود، باتت أرضية الخطاب الشعبوي أكثر خصوبة من أي وقت مضى.
ويخشى المراقبون من أن يتحول البرلمان الأوروبي في دوراته المقبلة إلى ساحة نفوذ متزايدة لأحزاب أقصى اليمين، بما يهدد مسار التكامل الأوروبي برمته.
في الميدان السياسي، لم يعد تأثير أقصى اليمين مقتصرًا على الانتخابات أو الحملات الدعائية، بل انعكس بشكل مباشر على السياسات العامة. ففي ألمانيا مثلًا، فرض خطاب حزب «البديل» نفسه على النقاش العام حول الهجرة والأمن، حتى داخل الأحزاب التقليدية.
وفي فرنسا، يدور النقاش الرئاسي القادم إلى حد كبير حول قضايا الهوية والهجرة، وهي القضايا التي يرفعها التجمع الوطني منذ سنوات.
أما في إيطاليا، فقد باتت سياسات ميلوني تمثل مزيجًا بين الواقعية السياسية والحفاظ على القاعدة الشعبوية، في محاولة لتثبيت أقدامها على رأس السلطة دون خسارة الحاضنة الانتخابية.
وفي البعد الدولي، يراهن أقصى اليمين الأوروبي على علاقته الوثيقة مع ترامب على أنها ورقة استراتيجية في مواجهة المؤسسة الأوروبية التقليدية.
وبعد عودة ترامب إلى البيت الأبيض حصلت هذه الأحزاب على شرعية إضافية وفتح المجال أمام تنسيق أوثق في ملفات حساسة مثل الهجرة، الأمن، والسياسات تجاه روسيا والصين.
هذا التلاقي قد يعيد تشكيل المعادلة الغربية، ويضع أوروبا أمام تحديات جديدة بين الاستمرار في نموذجها الليبرالي أو الانجراف وراء موجة يمينية شعبوية عابرة للقارات.
في المحصلة، يبدو أن أوروبا تقف اليوم على مفترق طرق تاريخي. صعود أقصى اليمين، بدعم غير مباشر من التيار الترامبي في أمريكا، لم يعد مجرد ظاهرة انتخابية عابرة، بل تحول إلى مشروع سياسي منظم يهدد بتغيير وجه القارة ومستقبل الاتحاد الأوروبي.
وبينما يراهن أنصار هذا التوجه على تعب الشعب الأوروبي من سياسات التقليديين، يحذر خصومهم من أن هذا الصعود قد يقود إلى عزلة دولية وانقسامات داخلية تعصف بالتجربة الأوروبية بأكملها.
aXA6IDUxLjkxLjIyNC4xNDQg جزيرة ام اند امز